في البدء كان الوجود، وكان الصراخ… نأتي نحن باكين من رحم الألم، وما إن نفتح أعيننا على هذا العالم حتى نستسلم لسلطة الأمومة، ننهل من حنانها وننصت لحكاياتها. ومن بين كل الحكايات، هناك تلك التي ترسّخت في الذاكرة، حكاية “أمّنا الغولة”.
منذ الطفولة، لم تكن “أمنا الغولة” مجرد خرافة قبل النوم، بل كانت أداة تهديد وعقاب، حاضرة على لسان الأم كلما أخطأنا، تتلون في حكاياتها بين مصّ الدماء وأبشع أشكال الرعب. لم نكن ندرك المعاني، لكننا كنّا نخضع، نرتجف، نرضخ لتلك السطوة التي تلبست وجه الأم، حين تتبدل ملامحها إلى تكشيرة تهديد تفوق في وقعها ألف كلمة.
كبرنا… وكبرت معنا “أمّنا الغولة”.
لم تعد تلك الكائن الخرافي الذي يسكن القصص، بل صارت تتجسد في شخصيات جديدة. في المدرسة، تحوّلت إلى المعلّم والعصا، إلى الكيرزان الذي ينهال على أيدينا وأرواحنا إن نحن خالفنا التوقعات. وتبنت الأم ذات الأداة، لكن بوجه جديد: “سأشكوك للمعلم!”.
ومع كل مرحلة من مراحل الحياة، كانت “أمّنا الغولة” تتقمص وجوهاً جديدة: الدين، الحرام، النار، السعير، الخطايا، العقاب الذي يحدده الآخرون. كانت هي الدين حين حُرمنا من التفكير والنقاش، وكانت هي المجتمع حين صادرت حريتنا باسم العيب والتقاليد، وكانت السلطة حين طاردتنا في أحلامنا وأفكارنا.
في بيتنا، في المدرسة، في المسجد، على لسان الواعظ، في القانون، وفي كل زاوية من زوايا الحياة، كانت “أمّنا الغولة” حاضرة، تراقب، تحكم، وتُدين. تمنعنا من الحديث عن الحق، عن الحرية، عن العدالة. تهددنا بالحبس والسجن والنفي، وتُنزل علينا عقوبات نفسية وجسدية باسم الطاعة والانصياع.
وحتى حين نبلغ أرذل العمر، حين نغادر هذا العالم إلى القبر، لا ننجو من حضورها. فهناك، في ظلمة القبر، تنتظرنا “أمّنا الغولة” لتسأل: “لمَ لم تفعل؟ ولمَ فعلت؟” وتسرد لنا ما ارتكبنا من خطايا.
“أمّنا الغولة” لا تموت. تتجدد، تتلون، وتبقى فينا… ونحن؟ نُساق وراءها، طائعين، صاغرين، كما لو أننا وُلدنا لعبادتها.
لا تعليق